السيرة "غزوة بدر الكبري"
صفحة 1 من اصل 1
السيرة "غزوة بدر الكبري"
بسم الله الرحمن الرحيم
السيرة النبوية
غزوة بدر الكبرى
السيرة النبوية
غزوة بدر الكبرى
غزوة بدر الكبرى:
غزوة بدر هي أولى معارك المسلمين الكبرى وأبركها، لما حدث فيها من انتصار عظيم على الكفار، هو الأول من نوعه بهذا الحجم منذ بعثته -صلى الله عليه وسلم-، وقد كانت هذه الغزوة في السابع عشر من شهر رمضان المبارك من السنة الثانية للهجرة النبوية.
وتبدأ فصول هذه الملحمة الكبرى عندما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم- أن قافلة لقريش قادمة من الشام، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتراضها وأخذ ما فيها عوضاً عن الأموال التي سلبتها قريش من المسلمين، فخرج -صلى الله عليه وسلم- ومعه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلًا، لكنهم أرادوا شيئاً وأراد الله غيره، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} [(7) سورة الأنفال].
ففي جمادى الأولى من السنة الثانية للهجرة خرج رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في مائتين من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش متجهة نحو الشام فبلغوا ذا العشيرة قرب ينبع فوجدوا العير قد فاتتهم فعادوا, ولما قرب رجوعها من الشام أرسل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد إلى الشمال لاستكشاف خبرها, فوصلا الحوراء حتى مرَّ بهم أبو سفيان بألف بعير موقرة بالأموال فأسرعا إلى المدينة وأخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الخبر, فقال -عليه الصلاة والسلام-: ((هذه عير قريش فيها أموالكم فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها))، ولم يعزم على أحد بالخروج، فسار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالجيش فيه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً بفرسين وسبعين بعيراً يتعاقبونها, وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- وعليّ ومرثد بن أبي مرثد يعتقبون بعيراً واحداً, ودفع لواء القيادة لمصعب بن عمير وكان أبيض, وقسم الجيش إلى كتيبتين, كتيبة المهاجرين وأعطى رايتها علي بن أبي طالب, وكتيبة الأنصار أعطى رايتها سعد بن معاذ, وجعل على قيادة الميمنة الزبير بن العوام, وعلى الميسرة المقداد بن عمرو, وعلى الساقة قيس بن أبي صعصعة, وهو –صلى الله عليه وسلم- القائد الأعلى للجيش.
واستخلف على المدينة وعلى الصلاة ابن أم مكتوم، فلما كان بالروحاء ردَّ أبا لبابة بن عبد المنذر، واستعمله على المدينة.
وكان أبو سفيان يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان، ولم يلبث أن نقلت إليه استخباراته بأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- قد استنفر أصحابه ليوقع بالعير، فأرسل ضمضم بن عمرو الغفاري إلى مكة, فصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره, وقد جدع أنفه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: "يا معشر قريش, اللطيمة اللطيمة, أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه, لا أرى أن تدركوها, الغوث الغوث".
فتحفّز الناس سراعاً وتجمع نحو ألف وثلاثمائة مقاتل، في مائة فرس وستمائة درع وجمال كثيرة لا يعرف عددها بقيادة أبي جهل {بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} [(47) سورة الأنفال], وأقبلوا كما قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((بحدهم وحديدهم يحادون الله ويحادون رسوله)).
وأفلت أبو سفيان بالعير فسار باتجاه الساحل, وأرسل رسالة إلى جيش قريش وهم في الجحفة: إنكم خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله فارجعوا, فهمّ الجيش بالرجوع, عندها قام الطاغية الأشر أبو جهل, فقال: "والله لا نرجع حتى نرد بدراً, فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزور, ونطعم الطعام, ونسقي الخمر, وتعزف لنا القيان, وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا, فلا يزالون يهابوننا أبداً".
فرجعت بنو زهرة وكانوا حوالي ثلاثمائة رجل, فسار الجيش من ألف مقاتل حتى نزلوا قريباً من بدر وراء كثيب بالعدوة القصوى.
ولما كان الأمر كذلك كان لا بد من موقف بطولي شجاع, يرد كيد أهل مكة في نحورهم ويكسر شوكتهم, وتَزَعزع قلوب فريق من الناس وخافوا اللقاء {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ* يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ} [(5-6) سورة الأنفال].
واستشار النبي –صلى الله عليه وسلم- أصحابه, فقام أبو بكر فقال وأحسن, ثم قام عمر فقال وأحسن, ثم قام المقداد بن عمرو فقال: "يا رسول الله, امض لما أراك الله فنحن معك, والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [(24) سورة المائدة]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون, فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه"، فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- خيراً ودعا له.
وهؤلاء القادة الثلاثة كانوا من المهاجرين وهم قلة في الجيش، فقال -عليه السلام-: ((أشيروا عليَّ أيها الناس)) وإنما يريد الأنصار, فقال سعد بن معاذ: "والله لكأنك تريدنا يا رسول الله", قال: ((أجل))، فقال سعد: "لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم, وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت, وصل حبل من شئت, واقطع حبل من شئت, وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت, وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت, وما أمرت فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك, فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرنّ معك, ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك".
الله أكبر: إنه الحب الحقيقي والولاء الحقيقي, فلا بأس في قاموس العقلاء الصادقين في انتمائهم أن تبذل الأنفس والأموال في سبيل رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله, إنه صدق الاتباع، يتمثل في مواقف الصحابة من الرعيل الأول, فلا تلكأ ولا تردد ولا انهزام, بل اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
أين هذا من تلك الانهزامية وذلك التردد, وضعف الولاء عند عدد ليس باليسير من أبناء المسلمين، والله المستعان؟!.
وسُرَّ النبي –صلى الله عليه وسلم- بقول سعد ثم قال: ((سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين, والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم)).
وتحرك النبي –صلى الله عليه وسلم- بأصحابه فنـزلوا قريباً من بدر, وفي مساء ذلك اليوم بعث -صلى الله عليه وسلم- استخباراته من جديد؛ ليبحث عن أخبار العدو، وقام لهذه العملية ثلاثة من قادة المهاجرين، علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه، ذهبوا إلى ماء بدر فوجدوا غلامين يستقيان لجيش مكة فألقوا عليهما القبض وجاؤوا بهما إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو في الصلاة، فاستخبروهما القوم، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما ضرباً موجعاً حتى اضطر الغلامان أن يقولا نحن لأبي سفيان فتركوهما.
ولما فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الصلاة قال لهم كالعاتب: ((إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا والله، إنهما لقريش))، ثم خاطب الغلامين قائلًا: ((أخبراني عن قريش))"، قالا: "هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى"، فقال لهما: ((كم القوم؟))، قالا:" كثير"، قال: ((ما عدتهم؟)) قالا: لا ندرى، قال: ((كم ينحرون كل يوم؟))، قالا: "يوماً تسعاً ويوماً عشراً"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((القوم فيما بين التسعمائة إلى الألف))، ثم قال لهما: ((فمن فيهم من أشراف قريش؟))، قالا: "عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البَخْتَرىّ بن هشام، وحكيم بن حِزام، ونَوْفَل بن خويلد، والحارث بن عامر، وطُعَيْمَة بن عدي، والنضر بن الحارث، وَزمْعَة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف"، فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الناس فقال: ((هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها)).
في هذه الأثناء بدأت أول بشائر النصر في أرض المعركة, أنزل الله المطر, فكان على المشركين وابلاً شديداً منعهم من التحرك, وكان على المسلمين طلاً طهرهم الله به وأذهب عنهم رجس الشيطان, ووطّأ به الأرض, وصلّب به الرمل, وثبّت الأقدام, ومهّد به المنـزل, وربط به على قلوبهم. وهكذا فالله مع أوليائه يحفظهم ويحرسهم ويحوطهم برعايته, وينصر جنده, وييسر لهم أمورهم, ويذلل العقبات لهم, متى ما ساروا على منهج الحق علماً وعملاً واعتقاداً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [(7) سورة محمد].
وتحرك النبي –صلى الله عليه وسلم- حتى نزل بدراً فقال الحباب بن المنذر: "يا رسول الله, أرأيت هذا المنـزل, أمنـزل أنزلك الله إياه, ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه, أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة))، قال: "يا رسول الله, فإن هذا ليس بمنـزل, فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء القوم، فننـزل ونغِّور ما وراءه من القَلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم, فنشرب ولا يشربون", فقال رسول الله: ((لقد أشرت بالرأي)).
فنهض -عليه السلام- بالجيش حتى أتى أقرب ماء من العدو فنـزل عليه شطر الليل, واتخذ النبي –صلى الله عليه وسلم- له عريشاً على تل مرتفع في الشمال الشرقي لميدان القتال ليكون مقراً للقيادة، كما تم اختيار فرقة من شباب الأنصار بقيادة سعد بن معاذ يحرسون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حول مقر قيادته.
ثم عبأ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- جيشه ومشى في موضع المعركة, وجعل يشير بيده ((هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله, وهذا مصرع فلان غداً إن شاء الله))، ثم بات -عليه السلام- يصلي إلى جذع شجرة, وبات المسلمون ليلهم بهدوء وسكينة, غمرت الثقة قلوبهم, وأخذوا من الراحة قسطهم, يأملون أن يروا بشائر نصر ربهم بأعينهم صباحاً وأما جيش مكة المشرك فنـزل صباحاً على وادي بدر, فبعثت قريش عمير بن وهب الجمحي وقالوا له: احزر لنا أصحاب محمد فاستجال بفرسه حول العسكر، ثم رجع وقال: "ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً أو ينقصون, ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد"، فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئاً، فرجع وقال: "ما وجدت شيئاً، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع, يتلمظون تلمظ الأفاعي، لا يريدون أن ينقلبوا إلى أهليهم زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم, والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلاً منكم, فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك, فرَوْا رأيكم".
ولما طلع المشركون وتراءى الجمعان قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((اللهم هذه قريش قد أقبلت بخُيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك, اللهم فنصرك الذي وعدتني, اللهم فأحنهم إلي الغداة)).
وأخذ النبي –صلى الله عليه وسلم- يعدل الصفوف بقدح في يده فضرب بطن سواد بن غزية وقال: ((استو يا سواد))، فقال سواد: "يا رسول الله, أوجعتني فأقدني", فكشف عن بطنه –صلى الله عليه وسلم- وقال: ((استقد))، فاعتنقه سواد, وقبّل بطنه, فقال: ((ما حملك على هذا يا سواد؟))، قال: "يا رسول الله, قد حضر ما ترى, فأردت أن يكون آخر العهد بك، أن يمس جلدي جلدك", فدعا له رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بخير.
ثم أمرهم –صلى الله عليه وسلم- ألا يبدؤوا القتال حتى يأمرهم, وكان أول وقود القتال أن خرج من جيش المشركين الأسود بن عبد الأسد المخزومي وقال: "أعاهد الله لأشربنّ من حوضهم أو لأهدمنّه أو لأموتنّ دونه, فخرج إليه حمزة -رضي الله عنه- فضربه ضربة قطع بها نصف ساقه, ثم ثنى عليه بضربة أتت عليه.
ثم خرج ثلاثة من فرسان قريش هم عتبة وشيبة ابنا ربيعة, والوليد بن عتبة وطلبوا المبارزة فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة فما ارتضوهم ونادوا: "يا محمد, أَخرِج إلينا أكفاءنا من قومنا", فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: ((قم يا عبيدة بن الحارث, وقم يا حمزة، وقم يا عليّ)), فأما حمزة وعليّ فلم يمهلا قرينيهما أن قتلاهما, وأما عبيدة فاختلف بينه وبين قرينه في ضربتين فكرّ عليّ وحمزة على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة وقد قطعت رجله, ومات بعد ذلك بخمسة أيام -رحمه الله ورضي عنه-.
وفي رواية أن الحارث بدل حمزة.
قال الإمام العلامة شمس الدين ابن القيم -رحمه الله- في زاد المعاد في مبحث أن الأسماء لها دلالة قوية على مسمياتها، ولأن الأسماء قوالب للمعاني ودالة عليها، قال -رحمه الله-: "تأمل أسماء الستة المتبارزين يوم بدر كيف اقتضى القدر مطابقة أسمائهم لأحوالهم، فكان الكفار: شيبة وعتبة والوليد، ثلاثة أسماء من الضعف، فالوليد له بداية الضعف، وشيبة له نهاية الضعف كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [(54) سورة الروم]، وعتبة من العتب، فدلت أسماؤهم على عتب يحل بهم وضعف ينالهم.
وكان أقرانهم من المسلمين: علي وعبيدة والحارث -رضي الله عنهم- ثلاثة أسماء تناسب أوصافهم وهي: العلو والعبودية والسعي الذي هو الحرث، فعلَوْا عليهم بعبوديتهم وسعيهم في حرث الآخرة.
ولم يزل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه من تعديل الصفوف يناشد ربه ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني, اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك, اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد, اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا))، وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فرده عليه الصديق وقال: "حسبك يا رسول الله ألححت على ربك".
وأغفى النبي –صلى الله عليه وسلم- إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: ((أبشر يا أبا بكر, أتاك نصر الله, هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع)).
ثم خرج من باب العريش وهو يثب في الدرع ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [(45) سورة القمر]، ثم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشاً وقال: ((شاهت الوجوه)) ورمى بها في وجوههم, فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى} [(17) سورة الأنفال]، وحينئذ أصدر إلى جيشه أوامره الأخيرة بالهجمة المضادة فقال: ((شدّوا))، وحرضهم على القتال قائلًا: ((والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، إلا أدخله الله الجنة))، وقال وهو يحضهم على القتال: ((قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض))، وحينئذ قال عُمَيْر بن الحُمَام: "بَخ بَخ"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: "لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها"، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قَرَنِه فجعل يأكل منهن، ثم قال: "لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قتل".
وسأله عوف بن الحارث فقال: "يا رسول الله، ما يُضحك الرب من عبده؟" قال: ((غَمْسُه يده في العَدُوّ حاسراً))، فنـزع درعاً كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
وحين أصدر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأمر بالهجوم كانت حدة هجمات العدو قد ذهبت وفتر حماسه، فكان لهذه الخطة الحكيمة أثر كبير في تعزيز موقف المسلمين، فإنهم حينما تلقوا أمر الشدّ والهجوم، وقد كان نشاطهم الحربي على شبابه، قاموا بهجوم كاسح مرير، فجعلوا يقلبون الصفوف، ويقطعون الأعناق.
وزادهم نشاطاً وحدة، أن رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يثب في الدرع، وقد تقدمهم فلم يكن أحد أقرب من المشركين منه، وهو يقول في جزم وصراحة: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [(45) سورة القمر]، فقاتل المسلمون أشد القتال ونصرتهم الملائكة.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذا سمع ضربة بالسوط فوقه, وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم, فنظر إلى المشرك أمامه! فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: ((صدقت, ذاك مدد السماء الثالثة)).
وقال أبو داود المازني: "إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي, فعرفت أنه قد قتله غيري".
قال عبد الرحمن بن عوف: "إني لفي الصف يوم بدر إذ التفتُّ, فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن إذ قال لي أحدهما سراً عن صاحبه: "يا عم أرني أبا جهل", فقلت: يا ابن أخي, فما تصنع به؟"، قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا", فتعجبت لذلك, قال: وغمزني الآخر, فقال لي مثلها, فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه, ثم انصرفا إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقال: ((أيكما قتله؟))، فقال كل واحد منهما: "أنا قتلته", قال: ((هل مسحتما سيفيكما؟))، فقالا: "لا", فنظر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى السيفين فقال: ((كلاكما قتله))، وهما معاذ بن عمرو بن الجموح, ومعوذ بن عفراء.
الله أكبر، ما أهون الخلق على الله صنديد من صناديد قريش وعظيم من عظمائها يأبى الله إلا أن يكون حتفه على يد شابين يافعين.
أين أنتم يا شباب الإسلام من تلك الطموحات؟ ماذا سجلتم لأمتكم؟ وماذا عساكم أن تفعلوا بشبابكم وفراغكم وجدتكم؟ وما مدى صلتكم بتاريخ آبائكم وأجدادكم الذين صنع الله على أيديهم البطولات؟.
وبدأت أمارات الفشل والاضطراب في صفوف المشركين، وجعلت تتهدم أمام حملات المسلمين العنيفة، واقتربت المعركة من نهايتها، وأخذت جموع المشركين في الفرار والانسحاب، وركب المسلمون ظهورهم يأسرون ويقتلون، حتى تمت عليهم الهزيمة.
ولما انتهت المعركة قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من ينظر ما صنع أبو جهل؟))، فتفرق الناس في طلبه، فوجده عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وبه آخر رمق، فوضع رجله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال له: "هل أخزاك الله يا عدو الله؟"، قال: "وبماذا أخزاني؟"، ثم سأله أبو جهل: "أخبرني لمن الدائرة اليوم؟" فقال ابن مسعود: "لله ورسوله"، فقال لابن مسعود وكان قد وضع رجله على عنقه: "لقد ارتقيت مرتقى صعباً يا رُوَيْعِىَ الغنم"، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة، وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه، وجاء به إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "يا رسول الله"، هذا رأس عدو الله أبي جهل"، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((آلله الذي لا إله غيره؟))، قال ابن مسعود: "والله الذي لا إله غيره"، وألقى رأس أبي جهل بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمد الله وسجد شكراً لله وقال: ((الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، إن لكل أمة فرعوناً، وإن فرعون هذه الأمة أبو جهل))".
وقال عبد الرحمن بن عوف: "كاتبت أمية بن خلف كتاباً بأن يحفظني في خاصتي ومالي بمكة، وأحفظه بالمدينة، فلما كان يوم بدر خرجت إلى جبل لأحرزه حين نام الناس، فأبصره بلال، فخرج حتى وقف على مجلس الأنصار فقال: "أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا أمية"، وكان أمية هو الذي يعذب بلالاً بمكة على ترك الإسلام، فيُخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: "لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد"، فيقول بلال: "أحدٌ أحد"، فلما رآه قال: "رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا"، قال عبد الرحمن بن عوف: "فخرج معه فريق من الأنصار في آثارنا، فلما خشيت أن يلحقونا خلفت لهم ابنه ليشغلهم، فقتلوه، ثم أبوا حتى يتبعونا، وكان رجلاً ثقيلاً، فلما أدركونا قلت: له: ابرك، فبرك، فألقيت عليه نفسي لأمنعه، فتخللوه بالسيوف من تحتي حتى قتلوه، وأصاب أحدهم رجلي بسيفه"، وكان عبد الرحمن يقول: "يرحم الله بلالاً أذهب أدراعي، وفجعني بأسيري".
وقتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومئذ خاله العاص بن هشام بن المغيرة، ولم يلتفت إلى قرابته منه.
ولما وضع القوم أيديهم يأسرون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العريش، وسعد بن معاذ قائم على بابه يحرسه متوشحاً سيفه، رأي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس، فقال له: ((والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم؟))، قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إليّ من استبقاء الرجال.
وبعد أن أقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ببدر ثلاثة أيام تحرك بجيشه نحو المدينة ومعه الأسارى من المشركين، واحتمل معه النفل الذي أصيب من المشركين، وجعل عليه عبد الله بن كعب، فلما خرج من مَضِيق الصفراء نزل على كَثِيب بين المضيق وبين النَّازِيَة وقسم هنالك الغنائم على المسلمين على السواء بعد أن أخذ منها الخمس، وعندما وصل إلى الصفراء أمر بقتل النضر بن الحارث، وكان هو حامل لواء المشركين يوم بدر، وكان من أكابر مجرمي قريش، ومن أشد الناس كيداً للإسلام وإيذاءً لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فضرب عنقه عليّ بن أبي طالب.
ولما وصل إلى عِرْق الظُّبْيَةِ أمر بقتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْط؛ لأنه الذي كان ألقى سَلا الجَزُور على ظهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في الصلاة، وهو الذي خنقه بردائه وكاد يقتله لولا اعتراض أبي بكر -رضي الله عنه- فلما أمر بقتله قال: "من للصِّبْيَةِ يا محمد؟"، قال: ((النار))، فقتله عاصم بن ثابت الأنصارى.
وكان قتل هذين الطاغيتين واجباً نظراً إلى سوابقهما، فلم يكونا من الأسارى فحسب، بل كانا من مجرمي الحرب بالاصطلاح الحديث.
ولما بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة استشار أصحابه في الأسارى، فقال أبو بكر: "يا رسول الله، هؤلاء بنو العم والعَشِيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ما ترى يا ابن الخطاب؟))، قال: "قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عَقِيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم، فهوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قال عمر، وأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: "فغدوت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، فقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة وأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [(67-68) سورة الأنفال])).
هذه باختصار بعض أحداث غزوة بدر الكبرى.
مواضيع مماثلة
» الصدمة الكبري!!!
» غزوة الأحزاب
» السيرة : الوحي والنبوة
» السيرة الذاتية للدكتور محمد البرادعي
» "السيرة" مقومات دولة الإسلام في المدينة
» غزوة الأحزاب
» السيرة : الوحي والنبوة
» السيرة الذاتية للدكتور محمد البرادعي
» "السيرة" مقومات دولة الإسلام في المدينة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى